رسالة لم تصل بقلم الاديب المتعلق طاهر الذوادي
~~*** رسالة لم تصل ***~~
هو كهل في العقد الرابع من عمره رب عائلة اشتهرت بالاستقرار و المحبة و الخلق الحميد و الطيبة و الأمانة و مد يد العون لكل من أغرقه الفقر و الحاجة . إنه السيد مختار بائع الأثاث المستعمل دائم الحركة و النشاط يصلح ما أمكن منه و ينظف و يلمّع ثم يعرض منتوجه للبيع بأثمان تكاد تكون في بعض الأحيان غير مربحة لكن القناعة هي كذلك من شيم الرجل الصبور . لكن السيد مختار في هذا اليوم على غير العادة كأنه يتقلب على صفيح من جمر أنهكه التفكير و التردد و التساؤل . كيف يتصرف ؟ ماذا يفعل بهذه الرسالة التي وجدها في أحد الأدراج ؟ هل يرسلها إلى صاحبها دون أن يعرف من هو ؟ أو يعيدها إلى صاحبتها و هو لا يدري من تكون فالأثاث يصل إليه بعد أن يمر بعشرات الحمالين ؟
المهم أن لديه عنوان المرسل إليه الذي وجد اسمه و عنوانه على ظهر هذه الرسالة التي لم تصل إلى صاحبها ، إلا لتحيره و تشغل تفكيره و تؤرقه خاصة بعد أن فتحها ليتأكد من قيمتها و مضمونها
فنص الرسالة أدهشه بوح صاحبته التي نثرها الشوق و أعدم بصيرتها و صبرها هي زوجة سافر زوجها للعمل بالخليج و تركها في وحدتها تنتظر رجوعه بكل لهفتها و تعاستها .
دون أن أطيل عليكم فهذا نص الرسالة :
بعد غيابك سنتين أكتب لك من لهفتي هذه الرسالة التي تشبهني
سيدي و سفينتي و سري و سروري و ساكني و سكني و سكينتي و سلواي و سلطاني و سنوات عمري المتلاحقات و ارضي و سمائي و سعادتي و ...
لقد أفرغت بغيابك الأشياء من أسمائها ، من ألوانها ، من أصواتها و
ليس لدي ما أخبرك به إلا ذاكرة اللهب و حنين اللحظات التي لم نعشها
و الكلمات التي لم نقلها و الفساتين التي لم ألبسها و الورود التي نمت و لم تطلها يداك حتى جفت
بالليالي الطويلة التي أشغلت فيها نفسي عنك و لم أفلح
بالنافذة التي لا تطل إلا على وجهك
بالسقف الذي تتراكض فيه أطيافك
و كم أسعدني تقمص شخصيتك و الجلوس خلف مكتبك الخالي منك
و ارتداء ملابسك و قمصانك التي لم يحالفها الحظ برفقتك إلى سهرة لم نقصدها و أغنية نجاة الصغيرة " اليوم عاد" التي لازمتني شهورا
واحتساء قهوتي في فناجينك و التلذذ بصمتي برفقتك المؤجلة و ابتسامتك الهاربة من ذاكرتي و عيونك التي يطفح بها قلبي كلما أسعفه الحلم أن يجمعنا .
ليس لدي ما أخبرك به فقط
كم اشتقتك و كم فضحتني هذه الكلمات و أنت الذي من فرط ما تأخرت كتبتني على ورق .
و أدركت أخيرا من غيابك القاتل و من شوقي المحضور أن هناك مواقيت للضجر و مواقيت للترقب و ليال للأرق
أن هناك مواقيت للكلام الذي لا صوت له و نهايات أسابيع أطول من شهر و عواصف صحراوية داخلية عشقية عنيفة لا تبقي على شيء
و أن النسيان خائن عنيد مثلك تماما لا يأتي وقت الحاجة و أن هناك مواقيت للبكاء الذي لا دموع له .
هناك مواقيت للإفلاس التام و للخسارات الكبيرة تأخذنا إلى عدم الإدراك و يستوي فيها الإحساس بالتحجر و الشعور بالإستغناء لكثرة تفاقم الأشياء التي تشيئنا .
سيدي : كنت دائما في الروايات التي قرأتها في غيابك و بطلي في قصة أخرى و الصياد الذي عاد بهيكل السمكة في قصة ~ العجوز و البحر ~ و كنت أنا سمكتك المنتزعة من بحر ثوراتك .
سيدي : كم لهذا الاسم من فرصة متبقية ؟ و كم لهذا الصبر من زمن حين كنت أنت عقاربه و أرقامه ؟ و صار عرشك يصغر حتى صرت تشبه العامة فغدوت فردا تتسلل خارج مذكرتي و تهرب من بين أناملي و من أظافر غيرتي عليك و من أرقامي السرية للحاسوب و من معطفك الذي يصيبني بالبرد كلما نظرت إليه و بدأ ينطفىء عتابي و خوفي عليك و حسرتي على غيابك . بعد أن كنت أنت وحدك احتياجاتي كلها .
سيدي : كم أحبك ؟
و كم كم أكرهك بعد أن تصلك رسالتي هذه حتى تأتي ؟ .
~~ طاهر الذوادي ~~
تعليقات
إرسال تعليق