الشاعر الصادق الهلالي // شريد وطن أحب


 شريدُ وَطَنٍ أَحَبّ

قصّة قصيرة من تأليف:

الشّاعر الصّادق الهلالي

قَدْ نَشْهَدُ مَظاهِرَ مُؤسِفَةً مُنبَثِقَةً عن سُلوكاتٍ نَتَمنّى دائما أن تكونَ مُنعزِلةً في مُجتَمعٍ مَنشَاُهُ بُذورٌ طيِّبَةٌ شَهِدَ لَهُ العالَمُ مَآثِرَ ومَناقِبَ جَمَّةً تَجعَلُنا نتَساءَلُ لماذا طغى فيه حُبُّ الذّاتِ والاستِكراشُ مع الخُنوعِ  والرِّضا بالفاقةِ والدّونِ : وأحسَنُ ما يمكِنُ أنْ نُوجِزَ لكُم كمِثالٍ

يَختَزِلُ ما نَوَدُّ طَرحَهُ، أنَّ رَجُلاً عاشَ رَجُلاً في وَطَنٍ أَحَبَّ ويُحِبُّ ولن يَتَوانى على التّعَلُّقِ بِهِ زَمانًا ومكانًا متحدّيا قَساوةَ الحياةِ ... ومنذُ صَيْحَتِه الأولى على هذه البَسيطةِ توالتُ عليه النّكسات في كلّ مراحل حياةٍ مَرمَرتْهُ لِفَقرِه وحَوَجِهِ لأبسَط مْقوِّمات العيشِ الكريمِ وكان طوال شبابِه صِداميًّا مُشاكِسًا وظلّ نتِيجة ذلك مكمودا، مُغتَمّا، ساخِطا، قليلَ الكلامِ.... ولأنّه كان لا يُحِبّ أن يعيش على الفُتاتِ بَحثَ عن شُغلٍ فسُدّتِ الأبواب في وجهه فظلمَ واحتال وتفرعَنَ مُضطرّا رادًّا بعُنفٍ حتّى على أهله وذويه فسمّاه بعضهُم : " فَقْرَعَوْنْ "... لِنَرْجعْ إلى أيّامِه الأولى الّتي لم يَرَ فيها ما يَجعلُه مُستقِرًّا وهادئا نفسِيّا وعاطفيًّا .... فلقد كان في طفولته يبقى جانبا أثناء الألعاب الجماعيّة مثلما كان يحرم في وَسطِه العائليّ المُفقّرِ من اللّباس الجديد أيّامَ الأعياد وما أكثرها... يتذكّر أنّه ذهب إلى المدرسة وحيدا وهو في سنّ السّادسة من عمرِه ووجد نفسه من أوّل يومٍ في آخر قاعة الدّرس يمدّ عُنُقه ليرى السبّورة من خلال الأيدي والرّؤوس المتشابكة والأعطاف المكتنزة وهو وسط كلّ ذلك ضعيفَ البنية مقهورا ... لم يتمتّع لمّا أُطرِد من المدرسة لضعف نتائجِه وتدنّي سلوكِه برعاية اجتماعيّة أو بتكوين مهنيّ أو بالتّربّص بشغل قارّ إذ لم يجد سبيلا للأيادي الخفيّة المتحكّمة في رقاب المحتاجين بالتّوصية والواسطة والمحاباة....

 عضّه الفقرُ عضّةً جَعلته طيّعا مُنصاعا للمسؤول، سهلَ الانقياد... وهكذا أصبحت عَنْجَهيّتُه أكذوبةً يتندّر بها صحبُه.... 

سار على نفس الدّربِ بوتيرةٍ رَتِيبةٍ حيثُ كان لتواضع دخله اليوميّ لا يجِد ما يسُدّ به رَمقَ

أسرته أو تمكين أولاده من إضحية العيد ليفرحهم بكبش أقرن كغيرهم من الأطفال... وفي أغلب الأوقات كان يتمسّح لدى المسؤولين للحصول على المساعدات والمعونات

في المواسم وأيّام الحملات الانتخابيّة خاصّة وعند الجوائح المتواترة لأنّه لا يستطيع أحيانا خلاص صاحب دكّان الحيّ الّذي يقتني منه بعض المستلزمات الحياتيّة بنسيئة ... كان يحتار عند إكساء أطفاله إذ كانت الملابس المستعملة تفرز تحت جنح الظّلام لفائدة ميسوري الحال وأصحاب الحظوة والجاه قبل أن تُعرضَ الأسمالُ والأطمارُ للعموم  و" الزّوّالي"  .... ولا 

تسل عن معاناته من المرض لأنّ دفتره العلاجِيّ الأبيض لا يمكّنه من المداواة لندرة الأدوية وانعدامها أحيانا بالمستشفى العمومي، الخاصّ بمحدوديّ الدّخل ...وفي بعض الأحيان لا يجد مجالا لقلع ضرس يؤلمه بالمّجّان ....إنّه ذاق الأمرّين من الجوع والبرد لعدم تمكّنه من اقتناء وسائل التّدفئة، وضاق من الانزواء والوحدة لقلّة الرّفاه صيفا وأخذ أبنائه للشّاطئ أيّام الحرّ،  وكذلك مشاركة الغير أفراحهم ... وهذا كلّه لقلّة ذات اليد... اكتأب خاصّة عندما تحصّلت إحدى بناته على شهادة الأستاذيّة وكانتْ أملَه لانفراج الحال... إذ صارت أيقونته من أصحاب الشّهائد العليا وبتفوّق ....فلماذا تأزّم؟ لأنّه كان يرى بأمّ عينيه زميلات لها يقفن كلّ أواخر  شَهرٍ  أمام الموزّع الآليّ بالبنك للحصول على مرتّباتهنّ... وابنته المسكينة مُنزوية في ركنٍ خفيّ تتألّم ترجو رحمة اللّه وهي الّتي كانت المتفوّقةُ عليهنّ ويرجعن إليها دائما  لفهم ما عَسُرَ عنهنّ من دروس... وقد كان يراها تبكي حسرةً وهو لا حول له ولا قوّة....يَئِسَ واستسلم للابتلاء الّذي ألمّ به ...إنّه لم يعد قادرا على ابتياع أيّ شيء من الضّروريات اليوميّة والموسميّة.... وقد غلت الأسعار وارتفعت أثمان كلّ السّلع ابتداء من الخضر والفواكه إلى اللّحوم والأسماك، إضافة إلى سوء جودة السّلع الحديديّة وغلائها وقصر عمرها إذ تصدأ وتذوب أدوات الفلاحة الّتي كانت مصدر رزقه ... إذ كم مرّة يشتري سياجا من الأسلاك القصديريّة لحماية مزروعاته البسيطة فلا تدوم أكثر من سنة ويتلاشى كلّ شيء .... لم يكن يرغب في الكثير من مباهج الدّنيا وخيرات بلاده راضيا بأدنى المكاسب ولو امتلاك درّاجة هوائيّة يتنقّل عليها للعمل إن وُجد أيّام الجوائح... كم تمنّى مثل غيره أن يمسَّ ولو جناحَ طائرة حطّت بإحدى مطارات وطنه الّتي لم يزرها قطّ ولو متفرّجا... لقد مُنِع ذلك خوفا من الإرهاب علاوة على ارتفاع أسعار النّقل وهو القاطن بالأرياف النّائية... كم مرّة فكّر في الحصول عل جواز سفر ولكنّ الجيبَ خاوٍ من الإفلاسِ..... آآآه! لقد قرّر ذات يوم مع عائلته الهجرة للتّمكّن من كسب المال كغيره فالدّينار بأكثر من ثلاثة يوروهات وذلك لتحسين وضعه عند العودة نهائيا للوطن المحبوب دائما وأبدا.... واعتلى مع اسرته سفينة مع كثير من المهمّشين أمثاله... فرح إذ أنّه أخيرا شقّ عباب البحر  مهاجرا مثل جلّ معارفه الّذين أصبحوا يملكون السيّارات وبَنَوْا مساكن عصريّة وهو الّذي  لا يزال في كوخ ورثه عن أمّه رحمها اللّه....وتلاطمت الأمواج في منتصف أعماق البحر... فما خاف...  إذ كانت الآمال تقوّي من عزيمته ....وسيحقّق كلّ أمانيه من شغل وعزّة وكرامة.... سيعود يوما إلى وطنٍ أحبّ، زاخرٍ بالخيرات والثّروات ومباهج الحياة وبطقسه المعتدل ورائحة البلد... إنّه لا يخاف إلاّ من بردِ وزمهرير بلاد الشّمال... فجأة اختلط عليه كلّ شيء.... إنّ.السّفينة تهتزّ لكثرة الرّكّاب  وملاحقة أعوان المراقبة البحريّة اللّصيقة لهم .... إنّها تغرق ... تهافت رجالٌ لإنقاذ وانتشال ما تناثر من شَتات وأشلاء....نعم ...... أخيرا رجع صاحبنا وعائلته للوطن الحبيب كما كان يحبّ ويشتهي وحقّقت الأقدار رغبته ... لم يخبرنا الرّاوي عن مآلِه ونهايةِ رحلته اليائسة... أرَجَعَ مع زوجته وأبنائه أحياءَ يُرزقون  أم أمواتا في توابيتَ من الأخشاب ... أم في بطون أسماكٍ كان يراها في الأسواق وكان يتلمّظ ااشتهاء أكلِها ولم يذُقها ...... الشيء الهامّ هو أنّه رَجع وأهلَه إلى وطنٍ قد أحبّ...

               الشّاعر الصّادق الهلالي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يا عازف العود… .. الشاعر والمبدع علي جابر الكريطي

يا ساقي الورد لطفا بقلم الشاعر هشام كريديح

انتي وتيني // بقلم الشاعر عبد السلام حلوم