اخطاءفادحة بقلم مريم الراشدي

 أخطاء فادحة


من قبل أن تُبثَّ نطفة في رحم أمها وهي تعاني الأمرين. سوء مشتل وسوء ضلع وسوء براح. كانت أمها بائعة مناديل بين شوارع مدينة الأضواء والضوضاء وكان أبوها بائع سجائر عند إحدى إشارات المرور بنفس المدينة. جمعتهم غمزات

الإشارات الحمراء والصفراء والخضراء فصارت النطفة الخطأ.


صارت بينهما المحاكم بعد أن لاحقته المخدوعة، بنت الخامسة عشر، عبر جمعيات الرفق بالأم العزباء واستطاعت انتزاع الحكم بالنسب ودفتر الحالة المدنية بمشقة وعناء ما أنساهما إلا رحلة مكوكية في البحث عن ملجإ يأويها وابنتها لأنها نبذت بين أهلها الذين هددوها بالتخلص منها. في وكر الهم والغم والفقر، كانت مضيعة الشرف !!!


مع صعوبة الظروف بالشارع، اضطرت ابنة السادسة عشر لعرض ابنتها للتبني وأودعتها لمؤسسة خاصة بذلك ثم اختفت. لا بطاقة هوية ولا رقم هاتف يفيد أو يعين على استدعائها من جديد.


كبرت الرضيعة وصارت بشهرها الرابع آية في الجمال وضحكتها تملأ أرجاء مقر الجمعية واختير لها من الأسماء "ملك" وحظيت بحنان الطباخة هناك على وجه الخصوص.

وعند استيفاء الصغيرة للست أشهر، وُضِعت في لفتها وسير بها لبيت محتضنيها الجديدين وتجددت معهم ضحكاتها البريئة بعد أن مر الأسبوعان الأولان غاية في الصعوبة. التأقلم عملية صعبة حتى لحديثي السن، بكاؤها اللامنقطع كاد أن يرمي بها في أحضان الجمعية من جديد لولا تريث الأم الحاضنة.


حظيت ملك برعاية خاصة من أبويها المتبنيين، كانا ميسورين وما بخلا عليها في أدنى طلباتها الشخصية والمدرسية. كانت شعلة يُتَحاكى عنها في الجدية والحنان والنعومة والرومانسية.


وفي القسم النهائي من إحدى مراحلها التعليمية بعد الابتدائي، كانت مضطرة للإدلاء بوثائقها الشخصية لاستكمال أحقيتها في اجتياز امتحانات آخر السنة. حينئذ، كانت الصدمة !! مواجهتها بقصتها !! 

- "ما استوعبْت !! ما الموضوع ؟؟ أنت، لست أمي ؟؟ !!

- بلا، الأم ليست فقط من تلد، الأم الحقيقية هي التي تربي وتسهر وتبذل الجهد ... أنت وابني، أخوك حسن، أخوان في الرضاعة ..." 

بنبرة ضائعة، ردت ملك : "لا تستصغريني أرجوك ومديني بالحقيقة كاملة، من ألفها ليائها ... ". أنصتت حتى جحظ قلبها من المرار الذي تجرعته.


من فرط الوقع ، وهي الرقيقة الحالمة، دخلت في غيبوبة لمدة شهرين كاملين وكأنها تكفر عن أخطاء أبويها البيولوجيين. ولما استفاقت، كانت مواعيد إيداع الملفات قد فاتت وضاع أملها في إنقاذ السنة الدراسية وتخطي القسم النهائي.

تمة كانت بداية الانتكاسة. انطلقت في رحلة بحثها الخفية عبر وسائل التواصل الاجتماعي بذكاء كبير وكانت نقطة الانطلاق على أرض الواقع هي الجمعية.


في رحلتها تلك، عرجت على منعطفات حادة. مرت بحَوارٍ وأزقة ومطارح صعبة للغاية وكانت تستعين بسائق سيارة أجرة استحسنت منه عرضه لمساعدتها مع الالتزام بالحضور في أي وقت تطلبه. لبى حاجتها بانتظام وزين لها السؤال في حي أسرتها القديم. وصلت للبيت لكن الأهل ما عادوا هناك، تفرقت بهم السبل على لسان جارة جدتها لأمها.


تحت وطأة التعب والخيبة والانكسار، دعاها ذاك السائق لأخذ كأس من عصير فواكه يدعى "زعزع" بإحدى المقاهي الشعبية ليس بعيدا عن حي الأهل فوافقت غير آبهة.

وهناك كان بالعصير ما كان وكان بها ما كان ...


أخفت ملك ما حصل لها عن عائلتها الثانية تفاديا للعتاب لكن، بعد ست أسابيع ساءت حالها وصارت لا تطيق روائح الطبخ وتستفرغ كلما أكلت وأحيانا دون أكل حتى. تشوّش ذهن الأم وهرعت بها لطبيب العائلة ليطمئنها فإذا بهما تصعقان بوافد جديد على أبوابهما لا دار في خلدهما ولا خطر على قلب أحد ...


مريم الراشدي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يا عازف العود… .. الشاعر والمبدع علي جابر الكريطي

يا ساقي الورد لطفا بقلم الشاعر هشام كريديح

انتي وتيني // بقلم الشاعر عبد السلام حلوم