إلى البدن الملفوف بالبياض ;;;;; قلم : ريحان الكلمات

.........إلى البدن الملفوف بالبياض
     
          إلى الملاك الصغير المضموم بين دراعي                                   
       
          إلى قُبلتي التي وارت الثرى مطبوعةً على الوجنتين     
     

         إلى الروح التي رفّة على الأعلى وعانقة السماء..

         تلقّفي أنفاسي المُحرقة بالفِراق..
    
         كلماتِ المُترعة بالمحبة
     
                               ******

-📞 ألوو..مرحبا، أما نشُد الرِحال حالًا لزيارتها كي 
        ما نفوتَ موعدها فنظطر إلى الغد ؟

- ألووو...أنا عازمة الآن مهما كانتِ الأحوال، أُمها هناك بباب                               
  غُرفتها منذُ الظهيرة تنتظر الأقراص..أقراص الدماغ...  

- ولكن من أين لكِ الأقراص ؟

- من أبيها قبل حين جابهم إليْ

- أسرعي أرجوك..إنني بانتظارك وقَلِق من فوات الأوان

..قَدِمت مُسرعة تلهث..ركِبنا السيارة والحزنُ يراودنا، انطلقنا نطوي الطريق ليتنا طِرنا..كيف ما كانت السيارة مُسرعة ليتها كانت أسرع، بل ليتها كانت كذلك وما وقفت وسط الطريق المُمتلئة..وعلى مدخلِ المدينة بتطوانَ دقّت آواخر دُقيقات الزيارة وشارفت الساعة السابعة، وبدَتِ الدقائقُ في قلبي تحترق تُضارعُ السّاعات،والأمتارُ تمدّدت كما الأميال...
وقفنا ببابِ المستشفى والزمانُ تثاقلَ وقد فاتتِ الزيارة.. ولجناها وهرعنا في دُروبها المديدة حتى وصلنا باب غرفتها المُوصدة..فلمّا إلتفتنا ما وجدنا أُختي أم البنيّة !..سألنا عنها نسوةً كُنّا هناك..قُلنا هنا كانت قبل حينٍ فاختفت..

بَقِيَت الأقراصُ معنا رهنًا والبابُ موصدًا والأختُ من ناظِريْنَ اختفت..وعانقتِ الغُصَصُ خافقي وخاطبتنِ أنفاسي وما تبقّى من أعلاقي ألَّا ننفكَّ إلّا برُأياها أو أخبار ..
وطرقنا البابَ المُغلقة طرقات ففتحوه..
فقالَ سِكرتيرٌ: من أنتم ؟
قُلنا: أهالي المريضة أمينة وَقد جِأنا زائريها وهاته الأقراص معنا..
قال: هاتُ الأقراص وأما الزيارة فقد انقضت ! 
قالت من كانت ترافقني: أيها الطبيب زحمة الطريق من أخّرتنا..نترجّاك بالله لا تُخيبنا بعدما جأنا من بعيد..؟ 
قالَ: هذا خارجَ طوعي ولا بيدي حيلة، ولكن استديرَى من الباب الخلفي فاطرقوه، تجدو هناك طبيبها الخاص...
وانعطفنا عائديْن دون أن يلفت أحدنا الآخر، مُسرعيْن والأنفاسُ تُسابقنا كأننا غرباءَ بعض..
وعندما دنوتُ بابها تقهقرتُ في مشيي مُشرئبًا عُنقي شاخصا عناوينَ الغُرف..وما إلّا هُنيهة إذ رمقتُ عنوانها ذاك المحفورُ في قلبي (مركز العناية المُركزة) وبطرقات مُتتابعة غيرُ مهذّبة طرقنا ..شُرِعُ البابُ لتوِّها كأنما البوّابُ من هجماتنا امتعض..أبرقَ فينا ثم قال: بمَهل ما دهاكُم !؟ 
قُلنا :أهالي أمينة نحن والأقراصُ معنا أيها الطبيب..وإنّ لنا فيكَ نوايَ الخيرِ والرجاء لو صفحتَ لنا ننظرَها مرّة ؟ 
فانحدَرت سُحنتهُ ناظرًا بعينٍ تُواشِجها العاطفة،ثمّ أطرقَ قائلا: تفضّلَا..
حسِبناها حينها مُعاملةَ الحسن رغم اختراق العادة المُتبعة.. 
لكنّها كانت إشارةً تهجَع في السُّباتِ المكِين..
دَلفنا نُطِلُّ الطَلَّةَ الأولى من بابِ غرفتها المُوارَب..وما كانت سوى زفرة آسنة إذ عرفتُ سِرّ الزيارة على غير موعدها...! 
لقد كانت أمينة في عشيّة رمقاتها الأخيرة..وما شاء طبيبها الشاب حسراتنا إذ هي فارقتِ الحياة ولم نراها...

وأُنمُلةَ القلم التي تحتَ أناملي أنظُرها الآنَ بألفِ سؤال ؟؟ أحِبركِ يكفي؟ أعوَاطفِ تنصاعُ لكي؟ أمِن حجمِ ضآلتِك تملأ فراغي؟ وارتجافُ اليدِ لا تُطيع كأنها صيد الفخاخِ.. ألِقلبيَ أن يصيرَ قامُوسا مُغرقا بالألفاظ كي ما أقطُفَ منهُ وأُشفي؟ وللعيونِ أن تغدو غديرا فتُشبِع مجاريها فأستقي منها وأبكي 
..ليتني بحرا حاملاً بالأرواح كي ما أصطفي منه وأعطي... 
وما عساهُ الخيالُ بأن يطيرَ مُستطلعا قدوم المُواسات أو مُبحِرا مجيءَ الأفراح...

لكنّهُ هاتفٌ يهتف من بُعادِ أطوائي أن قصارَى ما بجهدك أنِ أكتُب..ودع المآتي تُرافق دَفترَكَ الجديد بحجمه مُشرَع الصفحات الخالية ذِكرى أمينة ولُقياها..أنهَلهُ حيثُما طافَ في فضاءِ طيفها الملفوفُ في البياض..أنشد كلماتِ فيها تداوِيا وإذا ما أشفت أعقُبها قُصاصات أُخرى فألحَقها لتلحقني... 

..وكذا كانت أمينة تلفِظ أنفاسها الأخيرة تَشهَق كزنبقة البحرِ تفتّقة فاجترَّ الجَزْرُ جذُورَها...مُمَدّدَةً على المِهادِ ملحوفةَ الخِصرِ والأقدام، عاريةَ الصّدرِ والأكتاف..تِلكُم الأكتاف الظّامرة كأنها أكواعُ فرخٍ نَهشتهُ الأبوام..والصدرُ المُدرَّجُ بالعظامِ لَعمري حُطامَ هيكلُ مَقبُورٍ بأعوام...والفقاقيع..فقاقيعُ اللُعاب المُكوَّمة غطَّتِ الشِفاه الشّاحبة وانتشرت هابِطةً على الخد..والعُيون الشّاخصة في السماء بغيرِ رِمشً جامدةً تشهدُ اللهَ كأنْ ترتقِبُ القبضْ، لا يعلمُ رائيها تُراها ناظرةً إلى السّقف أم تحديقها فارق الفوْق..زُرقةُ البدن بادَلتِ السماءَ ازرِراقًا لكأنَّ صِبغتها تهيَّأت للصُّعود...

واستَعصَفتِ الأهوالُ في قلبي واستوْطنَت عواطفي وهبَّت ريحُها مُوَلولَةً رُكبتايَ الهاوِية..فاستندتُ بظهري مُعتمدا على الجدارِ ثمّ التفتُ على يساري مُستذكِرا من كانت تُرافقني، فإذا لها شهيقٌ توارَى في البُكاء، وعلى شالِها بَلَلُ العبَرات وأخرَى تتساقط...وفي أثنائها الطبيبُ تقدّم إذ كانَ منَ  الخلفِ يُدَمدِم بصائصَ الآمال،ليس إلّا ما تُمليهِ ظروف  العمل، وما الآمالُ سوى حُلم الأمس أُجهِضَ فينا....
نظرتُ إليهِ تائِها بالسؤال ثم قلتُ: أهُناك بصيصُ الحياة يحتمل التغلب على الفيروز المنتشر فنتشبّث برَمقِه ؟ 
أشاحَ بوجههِ رافعا يداهُ بإشارةِ شَكٍ ثمّ قالَ بعدَ تهدُّجٍ : احتمالٌ ضئيل لكنهُ موجود..إن اللهَ يجودُ بالأعمار لمن يشاء...

أرْخيْتُ جوامِحِ المُتوَاشِجة انهِزاما وتحطُّمَى مُلويا إلى الخارج..وبِخطوَات مُغرَقة في الوداع الأكبر قُدَّامَ الهَجعَةَ العُظمَى غادرتُ ملاذَها الأخير...

وخارِجًا على العَتبَة ولّيتُ وجهي شطرَ المغرِب  فكانت شمسُ الأصِيل جانحةً إلى الغروب تصُبُّ أشِعتها وراءَ الشّفق..وعلى الأشجارِ المُحيطة بالمستشفى تغاريد العصافِر تُناجي بُعدائها مُعلِنةً قُدوم اللّيل لِصباحِ الغدِ المُشرق..وعلى سور الحديقَة قُبالتي إلتفَّت مُعلّقات مِنَ العنابِر الليلِيّة المُتدلِّية إلى الأرض، وقد برعَمت بعضٌ أكمامها بنسيم المساءِ تفوحُ بشذوِها.

وكذا شَبشبة الحياة ساخرةً في سماءِ تخبط بعشواء أينما اتّفق...وتلبّدت مشاعِر بالضبابِ الكثيف، حتى لا قُدرةَ لي على المسير..ثَقُلت قَدَمايْ ورُكبتايَ تجوَّفت..نزَلتُ على الدّرجِ قاعدًا كعُودِ الحطَب قدَّ عَمُودَهُ المِنجَلُ، وكمَا الطَّيرُ الرّشيقُ بأجواءِ الفضاء الصّافِية ماضيًا يصْدَحْ بالنَّغم، ناظرا عطايا الأرضِ وطِيبِ مَرعاها، كذلكَ الطَّيرُ كانَ على الأرضِ زاحفا يخفِق بالجناحْ حَطَّهُ البَرقُ مِن علٍ...
وكذلك المَمَرّانِ المُتعاكسانِ أراهُما الآنَ يحكيانِ وباء الوُجود وجمرته..مَمَرٌ إلى المُستشفى وآخرَ منها..مَمرٌ خارِجوهُ مرضَى تداوَوْ وآخر داخلوهُ أصِحَّاءَ سُقِمو...ممرٌ يمشي عليهِ عوائِل تعافوْ رُفقَة أحبابهم، وآخر موَاشيهِ أوْدعُو مرضاهم...هؤلاءِ فرحَى على عتبات المُعافات وأولاءِكَ شهقَى على عتمات الهاوية..هؤلاءِ نحوَ الرَّدَى نُبشُو وأولاءكَ منَ الأكفانِي وثبو... 
هناكَ من تداووْ وانطلقُو وهنالكَ من ماتو وارتحلو...

وبَقِيتُ على حالي جالسا على الدّرجِ أجوبُ الوجودَ وأُحصي الفواجعَ، ولولَا صَوْمعة الجامِع بالآذانِ دوَّت وأفافت مَواجعِ، لَمَضيتُ في طوري أبعثُ الأمواتَ الأمَاسِيَ وأُقبِرُ بالأحياء المَآتيَ....

فاتّكأتُ على الكفّيْنِ أرُومُ الوقوف،ثمّ أدرتُ إلى الباب الموصدة حيثُ أمينة المُودعة، وما نظرتُ إذْ نظرت إلّا إلى شُقوق الباب، فكانتِ الأضواءُ مُطفأة..ظلام حالك يسود العام.

يتبع.....

                                         قلم:  ريحان الکلمات- زفراتها

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يا عازف العود… .. الشاعر والمبدع علي جابر الكريطي

يا ساقي الورد لطفا بقلم الشاعر هشام كريديح

انتي وتيني // بقلم الشاعر عبد السلام حلوم